فصل: تفسير الآية رقم (14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (14):

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)}
{زُيّنَ لِلنَّاسِ} كلام مستأنف سيق للتنفير عن الحظوظ النفسانية التي كثيرًا ما يقع القتال بسببها إثر بيان حال الكفرة والتنصيص على عدم نفع أموالهم وأولادهم لهم وقد كانوا يتعززون بذلك، والمراد من الناس الجنس {حُبُّ الشهوات} أي المشهيات وجعلها نفس الشهوات إشارة إلى ما ركز في الطباع من محبتها والحرص عليها حتى كأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض: ما تشتهي؟ فقال: أشتهي أن أشتهي، أو تنبيهًا على خستها لأن الشهوات خسيسة عند الحكماء والعقلاء ففي ذلك تنفير عنها وترغيب فيما عند الله تعالى، والمزين هو الله تعالى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وروي عن الحسن الشيطان والله زينها لهم لأنا لا نعلم أحدًا أذم لها من خالقها، وفي الانتصاف التزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب وهو بهذا المعنى مضاف إليه تعالى حقيقة لأنه لا خالق إلا هو، ويطلق ويراد به الحض على تعاطي الشهوات المحظورة فزيينها بالمعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلًا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها، وكلام الحسن رحمه الله تعالى محمول على التزين بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول فإنه يتحاشى أن ينسب خلق الله تعالى إلى غيره والإسناد في كل حقيقة كما أشرنا إليه فيما تقدم، ومن قال: الظاهر أنه من قبيل أقدمني بلدك حق لي عليك إذ لا إقدام هنا بل قدوم محض أثبت له مقدم للمبالغة، والمراد أن الشهوات زينت في أعينهم لنقصانهم ولا زينة لها في الحقيقة من غير أن يكون هناك مزين إلا أنه أثبت مزين مبالغة في الزينة وتنزيلًا لسبب الزينة منزلة الفاعل فقد تعسف وتصلف، ومن قال: المزين في الحقيقة هو الشيطان لأن التزيين صفة تقوم به. والقائل بأنه هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي مخطئ في الدعوى وغير مصيب في الدليل فالمخطئ ابن أخت خالته، وقرأ مجاهد زين بالبناء للفاعل ونصب {حُبَّ}.
{مِنَ النساء والبنين} في محل النصب على الحال من الشهوات وهي مفسرة لها في المعنى، وقيل: {مِنْ} لبيان الجنس وقدم النساء لعراقتهن في معنى الشهوة وهن حبائل الشيطان، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» ويقال: فيهن فتنتان قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام، وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء في الفتن، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الولد مبخلة مجبنة» ويقال فيهم فتنة واحدة وهي جمع المال، ولم يتعرض لذكر البنات لعدم الاطراد في حبهن، وقيل: إن البنين تشملهن على سبيل التغليب {والقناطير المقنطرة} جمع قنطار وهو المال الكثير كما أخرجه ابن جرير عن الضحاك.
وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القنطار إثنا عشر ألف أوقية» وأخرج الحاكم عن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «القنطار ألف أوقية» وفي رواية ابن أبي حاتم عنه القنطار ألف دينار. وأخرج ابن جرير عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القنطار ألف أوقية ومائتا دينار» وعن معاذ ألف ومائتا أوقية، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اثنا عشر ألف درهم وألف دينار، وفي رواية أخرى عنه ألف ومائتا دينار ومن الفضة ألف ومائتا مثقال، وعن أبي سعيد الخدري ملء جلد الثور ذهبًا، وعن مجاهد سبعون ألف دينار، وعن ابن المسيب ثمانون ألفًا، وعن أبي صالح مائة رطل، وعن قتادة قال: كنا نحدث أن القنطار مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألفًا من الورق، وعن أبي جعفر خمسة عشر ألف مثقال والمثقال أربعة وعشرون قيراطًا، وقيل: القنطار عند العرب وزن لا يحد، وقيل: ما بين السماء والأرض من مال وغير ذلك، ولعل الأولى كما قيل: ما روي عن الضحاك ويحمل التنصيص على المقدار المعين في هذه الأقوال على التمثيل لا التخصيص، والكثرة تختلف بحسب الاعتبارات والإضافات، واختلف في وزنه فقيل: فعلال، وقيل: فعنلان فالنون على الأول أصلية وعلى الثاني زائدة، ولفظ المقنطرة مأخوذ منه، ومن عادة العرب أن يصفوا الشيء بما يشتق منه للمبالغة كظل ظليل وهو كثير في وزن فاعل ويرد في المفعول كـ {حِجْرًا مَّحْجُورًا} [الفرقان: 22] و{نَسْيًا مَّنسِيًّا} [مريم: 23] وقيل: المقنطرة المضعفة، وخصها بعضهم بتسعة قناطير، وقيل: المقنطرة المحكمة المحصنة من قنطرت الشيء إذا عقدته وأحكمته، وقيل: المضروبة دنانير أو دراهم، وقيل: المنضدة التي بعضها فوق بعض، وقيل: المدفونة المكنوزة.
{مِنَ الذهب والفضة} بيان للقناطير وهو في موضع الحال منها، والذهب مؤنث يقال: هي الذهب الحمراء ولذلك يصغر على ذهيبة، وقال الفراء: ورا ذكر، ويقال في جمعه: أذهاب وذهوب وذهبان، وقيل: إنه جمع في المعنى لذهبة واشتقاقه من الذهاب، والفضة تجمع على فضض واشتقاقه من انفض الشيء إذا تفرق {والخيل} عطف على {النساء} أو {القناطير} لا على {الذهب والفضة} لأنها لا تسمى قنطارًا وواحده خائل وهو مشتق من الخيلاء مثل طائر وطير، وقال قوم: لا واحد له من لفظه بل هو اسم جمع واحده فرس ولفظه لفظ المصدر وجوز أن يكون مخففًا من خيل {المسومة} أي الراعية قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إحدى الروايات عنه فهي من سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى، أو المطهمة الحسان قاله مجاهد فهي من السيما عنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل قاله عكرمة فهي من السمة أو السومة عنى العلامة {والانعام} أي الإبل والبقر والغنم وسميت بذلك لنعومة مشيها ولينه، والنعم مختصة بالإبل {والحرث} مصدر عنى المفعول أي المزروع سواء كان حبوبًا أم بقلًا أم ثمرًا {ذلك} أي ما زين لهم من المذكور ولهذا ذكر وأفرد اسم الإشارة ويصح أن يكون ذلك لتذكير الخبر وإفراده وهو {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} أي ما يتمتع به أيامًا قلائل ثم يزول عن صاحبه {والله عِندَهُ حُسْنُ} أي المرجع الحسن فالمآب مفعل من آب يؤب أي رجع وأصله مأوب فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها ثم قلبت ألفًا وهو اسم مصدر ويقع اسم مكان وزمان والمصدر أوب وإياب.
أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال: {حسن المآب} حسن المنقلب وهي الجنة، وفي تكرير الإسناد إلى الإسم الجليل زيادة تأكيد وتفخيم ومزيد اعتناء بالترغيب فيما عند الله تعالى من النعيم المقيم والتزهيد في ملاذ الدنيا السريعة الزوال، ومن غريب ما استنبط من الآية كما قال أبو حيان وجوب الزكاة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة، والثاني: النساء والبنون ولا يخفى ما فيه.

.تفسير الآية رقم (15):

{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)}
{المأب قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} تقرير وتثبيت لما فهم مما قبل من أن ثواب الله تعالى خير من مستلذات الدنيا، والمراد من الإنباء الإخبار و{ذلكم} إشارة إلى المذكور من النساء وما معه، والقراء فيما إذا اجتمع همزتان أولاهما: مفتوحة والثانية: مضمومة كما هنا وكما في سورة ص (8) {أَءنزِلَ} وسورة القمر (52) {أألقى} على خمس مراتب: إحداها: مرتبة قالون وهي تسهيل الثانية بين بين وإدخال ألف بين الهمزتين. الثانية: مرتبة ورش وابن كثير وهي تسهيل الثانية أيضًا بين بين من غير إدخال ألف بينهما. الثالثة: مرتبة الكوفيين وابن ذكوان عن ابن عامر وهي تحقيق الثانية من غير إدخال ألف. الرابعة: مرتبة هشام وهي أنه روي عنه ثلاثة أوجه: الأول: التحقيق وعدم إدخال ألف بين الهمزتين. الوجه الثاني: التحقيق وإدخال ألف بينهما في السور الثلاث. الوجه الثالث: التفرقة بين السور فيحقق ويقصر هنا ويمد في الأخيرتين. الخامسة: مرتبة أبي عمرو وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه؛ والظرف الأول: متعلق بالفعل قبله. والثاني: متعلق بأفعل التفضيل ولا يجوز أن يكون صفة كما قال أبو البقاء لأنه يوجب أن تكون الجنة وما فيها مما رغبوا فيه بعضًا لما زهدوا عنه من الأموال ونحوها.
وقوله تعالى: {ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات} استئناف مبين لذلك الخير المبهم على أن {لِلَّذِينَ} خبر مقدم، و{جنات} مبتدأ مؤخر، و{عِندَ رَبّهِمْ} يحتمل وجهين كونه ظرفًا للاستقرار وكونه صفة للجنات في الأصل قدم فانتصب حالًا منها، وفي ذكر ذلك إشارة إلى علو رتبة الجنات ورفعة شأنها، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المتقين إيذان زيد اللطف بهم، والمراد منهم المتبتلون إليه تعالى المعرضون عمن سواه كما ينبئ عن ذلك الأوصاف الآتية وتعليق حصول الجنات وما يأتي بعد بهذا العنوان للترغيب في تحصيله والثبات عليه، وجوز أن تكون اللام متعلقة بخير أيضًا أو حذوف صفة له، وجنات حينئذٍ خبر لمحذوف أي هي جنات والجملة مبينة لخير وعند ربهم حينئذٍ إما أن يتعلق بالفعل على معنى ثبت تقواهم عنده شهادة لهم بالإخلاص، وجاز أن يجعل خبرًا مقدمًا فلا يحتاج إلى حذف المبتدأ، واعترض بأنه يقال: عند الله تعالى الثواب ولا يقال عند الله تعالى الجنة، وبذلك يصرح كلام السعد وغيره وفي النفس منه شيء وقرئ جنات بكسر التاء وفيه وجهان: أحدهما: أنه مجرور على البدلية من لفظ خير وثانيهما: أنه منصوب على إضمار أعني مثلًا أو البدلية من محل بخير {تَجْرِى} في محل الرفع أو النصب أو الجر صفة لجنات على القراءتين {مِن تَحْتِهَا الانهار} تقدم ما فيه {خالدين فِيهَا} حال مقدرة من المستكن في للذين والعامل ما فيه من معنى الاستقرار، وجوز أبو البقاء كونه حالًا من الهاء في تحتها أو من الضمير في اتقوا ولا يخفى ما فيه.
{وأزواج مُّطَهَّرَةٌ} أي منزهة مما يستقذر من النساء خَلْقًا وخُلُقًا، والعطف على جنات على قراءة الرفع وأما على قراءة النصب فلابد من تقدير لهم في الكلام {ورضوان} أي رضا عظيم على ما يشعر به التنوين، وقرأه عاصم بضم الراء وهما لغتان وقراءتان سبعيتان في جميع القرآن إلا في قوله تعالى: {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام} [المائدة: 16] فإنه بالكسر بالاتفاق، وقيل: المكسور اسم والمضموم مصدر وهو قول لا ثبت له {مِنَ الله} صفة لرضوان مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة {والله بَصِيرٌ بالعباد} أي خبير بهم وبأحوالهم وأفعالهم فيثيب المحسن فضلًا ويعاقب المسيء عدلًا، أو خبير بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعدّ لهم ما أعدّ، فالعباد على الأول: عام؛ وعلى الثاني: خاص، وقد بدأ سبحانه في هذه الآية أولًا بذكر الْمَقَرّ وهو الجنات، ثم ثَنى بذكر ما يحصل به الأنس التام وهو الأزواج المطهرة، ثم ثلث بذكر ما هو الإكسير الأعظم والروح لفؤاد الواله المغرم وهو رضا الله عز وجل. وفي الحديث: أنه سبحانه «يسأل أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك فيقول جل شأنه ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدًا».

.تفسير الآية رقم (16):

{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)}
{الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا مِنَ} يجوز أن يكون في محل الرفع على أنه خبر لمحذوف كأن (....) أولئك المتقون؟ فقيل: هم الذين إلخ، وأن يكون في موضع نصب على المدح، وأن يكون في حيز الجر على أنه تابع {للذين اتقوا} [آل عمران: 15] نعتًا أو بدلًا، أو العباد كذلك، واعترض كونه نعتًا للعباد بأن فيه تخصيص الإبصار ببعض العباد، وفيه أن ذلك التخصيص لا يوهم الاختصاص لظهور الأمر بل يفيد الاهتمام بشأنهم ورفعة مكانهم، واعترض أيضًا كونه تابعًا للمتقين بأنه بعيد جدًا لاسيما إذا جعل اللام متعلقًا بخير لكثرة الفواصل بين التابع والمتبوع، وأجيب بأنه لا بأس بهذا الفصل كما لا بأس بالفصل بين الممدوح والمدح إذ الصفة المادحة المقطوعة تابعة في المعنى ولهذا يلزم حذف الناصب أو المبتدأ لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية فالفرق بين هذه وسائر التوابع في قبح الفصل وعدمه خفي لابد له من دليل نبيل، وفيه أن قياس التبعية لفظًا ومعنى على التبعية معنى فقط مما لا ينبغي من جاهل فضلًا عن عالم فاضل، والتزام حذف الناصب أو المبتدأ في صورة القطع للمدح أو للذم قد يقال: إنه لدفع توهم الإخبار، والمقصود الإنشاء لا لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية، وتأكيد الجملة لإظهار أن إيمانهم ناشئ من وفور الرغبة وكمال النشاط، وفي ترتيب طلب المغفرة في قوله تعالى: {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النار} على مجرد الإيمان دليل على كفايته في استحقاق المغفرة والوقاية من النار من غير توقف على الطاعات، والمراد من الذنوب الكبائر والصغائر.